ماركس ومجتمعات الأطراف | فصل

«ماركس ومجتمعات الأطراف» (2020)

 

صدر كتاب «ماركس ومجتمعات الأطراف» لمؤلّفه كيفن ب. أندرسون، بترجمة عربيّة أنجزها هشام روحانا عام 2020، عن «دار نينوى». يشكّل الكتاب دراسة تاريخيّة معمّقة في نصوص لماركس غير مشهورة وذات أهمّيّة خاصّة، تتعلّق بقضايا تخصّ مجتمعات غير غربيّة أو غير أوروبّيّة عديدة، ما قد يكون نقدًا للادّعاءات الّتي بدت كأنّها تسود المشهد الأكاديميّ، وداخل بعض تيّارات ومدارس النقد الثقافيّ وما بعد الكولونياليّ، الّتي تقول إنّ ماركس – ومعه إنجلس أيضًا – كان في حقّة الأمر مفكّرًا أوروبّيّ التمركز (Eurocentric) واقتصادويّ (Economistic)، والماركسيّة من وجهة النظر هذه تقلّل من دور العناصر غير الاقتصاديّة، أي الثقافيّة-الحضاريّة، وتختزل مسار التاريخ إلى مجرّد مسار اقتصاديّ صرف.

في كتابه هذا، ينقض أندرسون مثل هذه الادّعاءات ويقدّم الدلائل على أنّ ماركس كان طلائعيًّا في نقده للكولونياليّة، ويُظْهِر أنّ ماركس - كما إنجلس - في كتاباته وفي ممارسته العمليّة، رأى في النضال من أجل الديمقراطيّة والتحرّر الوطنيّ، وفي النضال ضدّ العنصريّة والعبوديّة والمساواة الجندريّة، نضالًا مشتبكًا ومتداخلًا مع نضال الطبقة العاملة، ومكوّنًا أساسيًّا في نضالها من أجل التحرّر الإنسانيّ.

تنشر فُسْحَة – ثقافيّة فلسطينيّة جزءًا من مقدّمة الكتاب بإذن من مترجمه، هشام روحانا.

 


 

أُجْبِر ماركس على الهجرة في عام 1849 إلى لندن، حيث استقرّ فيها لاجئًا سياسيًّا، حتّى وفاته في عام 1883. عايش ماركس هزيمة ثورات عام 1848 في اليابسة الأوروبّيّة، وشعر أنّ مرحلة الجزر قد حلّت. وأكّد له الانقلاب البونابرتيّ في عام 1851 في فرنسا ذلك، فأشار إلى انحسار الموجة الثوريّة وانكفائها. وإذا ما كانت هذه التطوّرات قد ضيّقت عليه في مكان ما، فإنّها فتحت أمامه في لندن آفاقًا جديدة. لقد حلّت رحال ماركس في مكان هو الآن المركز الفعليّ للعالم، في لندن، وهي آنذاك عاصمة الاقتصاد الصناعيّ الرأسماليّ العالميّ، هذا في الوقت الّذي بدأ فيه العمل في مكتبة متحفها، على ما سيصير لاحقًا رائعته «رأس المال». ووضعه هذا الانتقال إلى لندن أيضًا، وهي حينذاك عاصمة الإمبراطوريّة العظمى في العالم، أمام أهمّيّة استحقاق المعالجة النظريّة للمجتمعات غير الغربيّة والكولونياليّة، وأخذها بعين الاعتبار.

يلتقط الفيلسوف التفكيكيّ جاك دريدا الوضعيّة الهامشيّة الّتي يوجد فيها ماركس، وهو اللاجئ السياسيّ في لندن العصر الفيكتوريّ، ويربطها بموقعه الهامشيّ داخل تراث الفكر الغربيّ: "يبقى ماركس لاجئًا بيننا، ممجَّدًا، مقدّسًا، ملعونًا، لكن يبقى لاجئًا مغيَّبًا كما كان طوال حياته". وكان عمله مراسلًا رئيسيًّا في أوروبّا لصحيفة  «تريبيون»، الصادرة في نيويورك، أحد أهمّ مصادر دخله في بريطانيا. أمّا مصدر دخله الثاني فكان الدعم الماليّ الّذي كان صديقه فريدريك إنجلس يقدّمه، وكان هو الآخر من محاربي 1848، وأصبح بعدها شريكًا في مصنع عائلته الناجح جدًّا في مانشستر. وغالبًا ما كتب ماركس متنقّلًا بين اللغة الألمانيّة والإنجليزيّة والفرنسيّة، فكان مفكّرًا عالميًّا متعدّد اللغات.   

 

أطراف الرأسماليّة 

يقدّم هذا الكتاب مجموعتين من النصوص، الّتي كتب ماركس أغلبيّتها في أثناء وجوده في لندن: 1) سنتفحّص فيه تنظيراته حول مجموعة من المجتمعات غير الغربيّة – مثل الهند وروسيا والصين والجزائر - وعلاقاتها الراهنة مع الكولونياليّة والرأسماليّة. 2) سنتناول فيه أيضًا حركات التحرّر القوميّ، خاصّة في بولندا وإيرلندا، وعلاقاتها بالحركات الديمقراطيّة والاشتراكيّة المعاصرة. وتتّصل بهذه الأخيرة تنظيرات ماركس حول العرق والإثنيّة وعلاقاتهما بالطبقة، بما يخصّ العمّال السود في أمريكا أثناء الحرب الأهليّة، والعمّال الإيرلنديّين في بريطانيا[1].

إنّ جزءًا من المجتمعات غير الغربيّة الّتي درسها ماركس، مثل الهند وإندونيسيا والجزائر، كانت في عصره مجتمعات ما قبل رأسماليّة، قد أُلْحِقت جزئيًّا فقط بالحداثة الرأسماليّة من خلال الكولونياليّة...

تتركّز دراستي الحاليّة في نصوص ماركس حول مجتمعات كانت في أغلبيّتها طرفيّة بالنسبة إلى الرأسماليّة خلال فترة حياته، وسأتناول - على وجه الخصوص - نصوصًا غير معروفة له، مثل كتاباته الصحافيّة في صحيفة «تريبيون». وسأعاين أيضًا دفاتر ملاحظاته الواسعة، وهي بالكاد معروفة، الّتي كتبها بين عامَي 1879 و1882، حول المجتمعات غير الغربيّة وقبل الرأسماليّة، الّتي يجري العمل على إعداد نشرها ضمن ما يُسَمّى ’المجموعة الكاملة‘ الثانية (MEGA-2) [يُنْظَر الفصل بعنوان الملحق في نهاية هذا الكتاب]. إنّ جزءًا من هذه المجتمعات غير الغربيّة الّتي درسها ماركس، مثل الهند وإندونيسيا والجزائر، كانت في عصره مجتمعات ما قبل رأسماليّة، قد أُلْحِقَت جزئيًّا فقط بالحداثة الرأسماليّة من خلال الكولونياليّة. أمّا المجتمعات الأخرى، مثل روسيا والصين وبولندا، فكانت ما زالت خارج النظام الرأسماليّ المُعَوْلَم، بينما كانت الولايات المتّحدة وإيرلندا جزءًا منه، رغم أنّ الأخيرة بقيت في واقع الحال بلادًا زراعيّة. ورغم أنّ هذه البلاد كانت بالنسبة إلى الرأسماليّة العالميّة بلادًا ذات مواقع جغرافيّة مختلفة، إلّا أنّها شكّلت بالنسبة إليها، وبشكل أو بآخر، بلادًا طرفيّة على هامشها، ومن هنا يأتي اسم الكتاب (Marx at The Margins).

 

حركات مقاومة رأس المال 

تصعد من نصوص ماركس عن هذه المجتمعات فكرتان أساسيّتان: أوّلًا، يؤكّد ماركس أنّ البنية الاجتماعيّة، في بلاد مثل روسيا والهند والصين والجزائر وإندونيسيا، مختلفة اختلافًا واضحًا عن أوروبّا الغربيّة، ويشتبك خلال كتاباته هذه كلّها مع قضيّة التطوّر المستقبليّ لهذه المجتمعات غير الغربيّة، ويتعامل تحديدًا مع احتمالات الثورة فيها، ومع مواقع المقاومة في وجه توسّع رأس المال. وسأدّعي أنّ وجهة نظره تطوّرت مع السنين[2]. وفي حين كانت وجهة نظره في أربعينات القرن التاسع عشر تتضمّن رؤية أحاديّة المسار، حتّى أنّها في بعض الأحيان كانت مشوبة بنظرة إثنيّة التمركز، وترى أنّ هذه المجتمعات غير الغربيّة سوف تبتلعها بالضرورة الرأسماليّة، وسيلي ذلك التحديث الّذي سيكون من خلال الكولونياليّة والسوق العالميّة، لكن بمرور الوقت، تطوّرت وجهة نظره نحو رؤية متعدّدة المسارات أبقت مستقبل هذه المجتمعات قضيّة مفتوحة.

في عامَي 1881 و1882 صار ماركس يتصوّر حدوث إمكانيّة أن يكون تحديث روسيا على نحو تقدّميّ غير رأسماليّ، وهذا إذا ما اتّحدت حركتها الثوريّة ذات القاعدة الفلّاحيّة وحركة الطبقات العاملة في أوروبّا الغربيّة. لقد تقصّيت وراء هذا التطوّر في أفكاره في الفصل الأوّل والفصل السادس على وجه الخصوص، وجزئيًّا في الفصل الخامس. ولقد عرضت الهيكل الزمانيّ لهذا التطوّر من الرؤية الأحاديّة المسار، المتضمَّنة في «البيان الشيوعيّ» (1848)، وفي كتاباته في «التريبيون» في السنوات الأولى من خمسينات القرن، وما بعدها الرؤية المتعدّدة، مسارات التطوّر التاريخيّ الموزّعة على «الغروندريسة» (1858-1857)، وفي النسخة الفرنسيّة من «رأس المال» (1875-1872)، وأخيرًا في كتاباته ونصوصه المتأخّرة حول المجتمعات غير الغربيّة بين 1879 و1882؛ روسيا، والهند، وأمريكا اللاتينيّة.

وصل [ماركس] باستنتاجاته إلى قناعة بأنّ الحركة العمّاليّة في بلاد المركز الرأسماليّ، الّتي تفشل في تقديم الدعم الملائم للحركات القوميّة التقدّميّة (...) تعرّض تطوّر نضالها ذاته للخطر...

ثانيًا، تشكّل الفئات الإثنيّة والقوميّات المضطهدة – بولندا، إيرلندا، العمّال الإيرلنديّون في بريطانيا، السود في الولايات المتّحدة - وعلاقاتها بالحركات الديمقراطيّة والعمّاليّة الموضوعة الرئيسيّة الثانية لهذا الكتاب. إذ يناقش ماركس هذه القضايا في «التريبيون» وفي الصحافة الأخرى، وداخل النقاش أيضًا في «الجمعيّة الأمميّة للعمّال» وفي «رأس المال». ولقد اتّخذ منذ الأربعينات موقفًا ثابتًا داعمًا لاستقلال بولندا وإيرلندا، وللنضال ضدّ العبوديّة في الولايات المتّحدة، لكن مع اندلاع الحرب الأهليّة في أمريكا، وانتفاضة بولندا في عام 1863، و«حركة فينان» [القوميّة] في إيرلندا، طرأ بعض التغيّر في معالجته لها، وتزايد تناوله لها. ولقد عرضت لها في الفصول الثاني والثالث والرابع، وجزئيًّا في الفصل الخامس. وفي ستّينات القرن التاسع عشر، أضحت هذه الموضوعات مركزيّة بالنسبة إلى معالجته لحركة الطبقة العاملة في بلدين مركزيّين بالنسبة إلى الرأسماليّة؛ بريطانيا والولايات المتّحدة. لقد وصل باستنتاجاته إلى قناعة بأنّ الحركة العمّاليّة في بلاد المركز الرأسماليّ، الّتي تفشل في تقديم الدعم الملائم للحركات القوميّة التقدّميّة، والواقعة تحت تأثير حكومات بلادها، أو الّتي تفشل في النضال ضدّ العنصريّة داخل مجتمعات بلادها، تعرّض تطوّر نضالها ذاته للخطر.  

 

ماركس المفكّر الأوروبّيّ 

سوف أدّعي أيضًا أنّ هاتين الموضوعتين، اللتين تحتلّان الموقع المركزيّ في هذه الدراسة، ليستا طارئتين ولا غريبتين على تنظيرات ماركس حول الرأسماليّة، بل تشكّلان جزءًا من مجمل تحليله للنظام المُعَوْلَم المعاصر له. ولم تكن البروليتاريا بالنسبة إلى ماركس بيضاء وأوروبّيّة، بل أيضًا العمّال السود في أمريكا، والإيرلنديّين الّذين لم يُعْتبَروا ’بيضًا‘ في ذلك الوقت، لا من قِبَل الحضارة الأمريكيّة ولا البريطانيّة. واعتقد ماركس أنّه كلّما تغلغلت الحداثة الرأسماليّة في روسيا وآسيا، مُقَوِّضَةً الأنظمة ما قبل الرأسماليّة لهذه المجتمعات، بزغت مواقع مقاومة جديدة. وفيها رأى أنّ هذه المقاومة ضدّ الرأسماليّة ستتّخذ من هذه التشكيلات الاجتماعيّة التشاركيّة بؤرًا لها.

تقدّم لنا سيرة حياة ماركس مثالًا ليس للمفكّر الألمانيّ أو البريطانيّ بل للمفكّر الأوروبّيّ، أو قل الأمميّ...

سواء كان اهتمامه منصبًّا على الفلّاح في القرية الروسيّة أو المزارع الأجير في إيرلندا، أو ذلك العامل المهاجر إلى بريطانيا، أو المزارع الأسود المعتق حديثًا، فإنّ ماركس واصل البحث عن حلفاء للطبقة العاملة الغربيّة في النضال ضدّ رأس المال. يتّخذ موقع ماركس في هذا السياق أهمّيّة إضافيّة. وبينما كان - إلى حدّ ما - مهمَّشًا في بريطانيا، فإنّه رفض منذ البداية عزل نفسه داخل جماعة المنفيّين الألمان. وعوض هذا أصبح ماركس جزءًا من المجتمع البريطانيّ، واحتفظ بتواصل دائم مع حركة الميثاقيّين (Chartists)، ومع حركات عمّاليّة إضافيّة. ولم يكتب باللغة الإنجليزيّة لصحيفة «التريبيون» فحسب، بل كان مؤلّف عدد غير قليل من البيانات والتصريحات الصادرة باسم «الأمميّة».

تقدّم لنا سيرة حياة ماركس مثالًا ليس للمفكّر الألمانيّ أو البريطانيّ بل للمفكّر الأوروبّيّ، أو قل الأمميّ. ومن لندن؛ هذه العاصمة الكوسموبوليتيّة؛ عاصمة الصناعة وعاصمة الإمبراطوريّة العظمى، صُهِر واكتمل نقده لرأس المال. ولسنا في حاجة هنا إلى تأكيد أنّ مشروع حياة ماركس كان نقد الاقتصاد السياسيّ، أي تفكيك أسرار النظام وبنية المجتمع الرأسماليّ الحديث، والكشف عن إمكانيّات تحويله ونقله إيجابيًّا، من خلال حركة التحرّر الذاتيّ للطبقة العاملة الحديثة. وسأدّعي هنا في هذا الكتاب أنّ تنظيراته حول القوميّة والإثنيّة والمجتمعات غير الغربيّة، تشكّل جزءًا مهمًّا من هذا الجهد، لكنّه ما زال مهملًا.

 


إحالات

[1] لقد وظّفت هنا، وفي مواضع أخرى، المصطلحين ’أسود‘ و’أمريكيّ من أصول أفريقيّة‘ (African American)؛ للإشارة إلى مجموعة إثنيّة محدّدة، بنفس الطريقة الّتي وُظِّف فيها المصطلحان ’بولونيّ‘ و’إيرلنديّ‘، بينما قلّلت بقدر المستطاع من توظيف المصطلح ’أبيض‘، وهو الأقلّ تحديدًا.

[2] إنّ معالجة تاريخيّة لأفكار ماركس قد تحمل أحيانًا مجازفة القول بالكشف عن تغيير في رُؤاه، بينما الأمر هو أمر اختلاف في مستوى تركيزه على هذه الموضوعة أو تلك. وعبّر المنظّر السياسيّ بيرتل أولمان (Bertell Ollman) عن هذه الإشكاليّة، فحذّر في كتابه «تحقيقات ديالكتيكيّة (1993) من أنّ ما يبدو أنّه تباينات أو اختلافات في الكثير من صياغات ماركس، يعود إلى اختلاف مستويات التعميم (كأن يكون شديد التخصيص عندما يتناول المجتمع في روسيا أو إنجلترا أحيانًا، وأحيانًا أخرى على الرأسماليّة العالميّة أو التاريخ العالميّ...)، أو يعود إلى اختلاف الجمهور المستمع (لشخصه وحيدًا مع مسوّداته، الحركة الاشتراكيّة في كتاباته الجداليّة، أو الأخير معًا مع جمهور المثقّفين كما في «رأس المال»...). لقد حاولت أن أكون يقظًا لهذا الأمر عندما أشرت إلى تغيير أو تطوّر في فكر ماركس. لكنّني أعتقد أنّ الكفّة الراجحة من الشواهد تشير إلى تغيير وتطوّر مهمّين، في معالجة ماركس لعدد من المجتمعات، وخاصّة الهند وروسيا وإيرلندا. مع هذه فإنّني أتّخذ جانب الحذر في إضفاء تغيّرات على مواقف ماركس، لسبب آخر هو أنّ مفاهيم ماركس الأساسيّة – نظرته الديالكتيكيّة، نظريّته في الاغتراب والصنميّة، مفاهيمه حول الرأسماليّة واستغلال العمل - بقيت جميعها ثابتة إلى حدّ كبير، منذ أربعينات القرن التاسع عشر حتّى وفاته. وعليه؛ فإنّ نقاشي حول التغيّر الحاصل لديه ليس له أيّة علاقة بالمحاولات القائلة "بقطع معرفيّ" في فكره، كما يُرَى على وجه الخصوص لدى المنظّر الماركسيّ البنيويّ لويس ألتوسير.

 


 

كيفن ب. أندرسون

 

 

 

عالم اجتماع أمريكيّ، وأستاذ علم الاجتماع في «جامعة كاليفورنيا – سانت باربرا».